أسباب سقوط الدولة الأموية
بقلم / راغب السرجاني
قال الله تعالى: "قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ"..{آل عمران:26}.
حقًا.. لكل أمة أجل، ولكل أجل كتاب.. والمُلك بيد الله تعالى.. يقلب الليل والنهار، فيعزُّ من يشاء بتوفيقه، ويذل من يشاء بخذلانه.. ويرفع من يشاء بقدرته، ويخفض من يشاء بحكمته.
ومن حكمة الله أنه إذا جَارَ الملوك على الرعية، فجار القوي على الضعيف، ولم يؤخذ للمظلوم حقه من ظالمه سلط الله على الملوك من يفعل بهم كفعلهم برعاياهم وضعفائهم سواء بسواء.. وهذه سُنَّةُ الله تعالى منذ قامت الدنيا إلى أن تزول..
فلما قدَّر الله وشاء زوال ملك بني أمية.. هيَّأ لذلك أسبابه، وإذا قدَّر الله أمرًا فلا مردَّ له، وكان أمر الله قدرًا مقدورًا..
اختلفت كلمة بني أمية، وسارع الناس واجتمعوا على الخليفة العباسي فكان انقراض ملك بني أمية، وبدأ مُلك بني العباس.. ولكن يبقى التساؤل: ما جوانب التقصير التي طرأت على الأمويين فأدت إلى زوال دولتهم؟
وعندما ننظر إلى حقبة الخلافة الأموية نجد أن جميع خلفائهم من لدن معاوية ـ رضي الله عنه ـ إلى آخرهم.. لم يتجاوزوا أربعة عشرة رجلاً..
وعندما نستعرض سير وأدوار حياتهم نجد عدة أسباب اجتمعت عندهم كانت هي الأسباب الحقيقية لسقوط دولة بني أمية وزوال عزهم ومجدهم..
فسقوط دولة الخلافة الأموية هو أمر طبيعي إذا أخذنا بعين الاعتبار أن الدول كالأفراد والكائنات الحية تمر في أدوار ومراحل مختلفة من نمو وقوة وضعف ثم فناء، وإنما كل دولة تُذكر بمآثرها وبما تتركه من آثار إيجابية..
ومما لا شك فيه أن هذه الدولة الأموية تركت مآثر جليلة تُذكر لها منها:
أنها زادت في مساحة الدولة الإسلامية فامتدت من أواسط آسيا شرقًا إلى المحيط الأطلسي غربًا، وصبغت هذه المساحة الشاسعة من الأراضي بالصبغة العربية عن طريق تشجيع هجرة القبائل من الجزيرة العربية إلى البلاد المفتوحة حيث استقرت واختلطت بالسكان المحليين، فنتج عن هذا الانتشار العربي نشر اللغة العربية في أنحاء البلاد المفتوحة باعتبارها لغة القرآن ، وكان من عوامل انتشار العربية تعريب الدواوين وضرب النقود العربية الإسلامية..
كما اهتمت بتدوين الحديث النبوي الشريف الذي بدأ في عهد عمر بن عبد العزيز الأمر الذي ساعد على انتشار اللغة العربية بين المسلمين على مختلف طبقاتهم ومستوياتهم..
هذا وقد سُئِلَ بعضُ شيوخ بني أمية ومحصِّليها عقب زوال الملك عنهم إلى بني العباس: "ما كان سبب زوال ملككم؟
قال: إنا شُغِلْنا بلذاتنا عن تفقُّدِ ما كان تفقدُه يلزمنا فظلمنا رعيتنا فيئسوا من إنصافنا، وتمنوا الراحة منا، وتحومل على أهل خراجنا فتخلَّوا عنا، وخرُبت ضياعُنا فخَلَتْ بيوتُ أموالنا، ووثقنا بوزرائنا فآثروا مرافقهم على منافعنا ، وأمضوا أمورًا دوننا أخفوا علمها عنا، وتأخر عطاء جندنا فزالت طاعتهم لنا، واستدعاهم أعادينا فتضافروا معهم على حربنا، وطلبنا أعداؤنا فعجزنا عنهم لقلة أنصارنا، وكان استتار الأخبار عنا من أَوْكَد أسباب زوال ملكنا"..
الواضح أن التماسك كان لا يزال باديًا على دولة الخلافة الأموية حتى عهد هشام بن عبد الملك، فقد أضاع الأمويون بعد وفاته في عام 125هـ / 743م كل شيء بعدما فقدوا تماسكهم، وكان عهد الوليد الثاني وما اكتنفه من عبث.. إلى جانب الحروب الأهلية التي حدثت بعد مقتله... كل ذلك ساعد في تحطيم ما كان من هيبة للأمويين في قلوب الناس..
وعلى الرغم من أن مروان الثاني كان مقاتلاً شجاعً ، وقائدًا ممتازًا.. إلا أن فرص الإصلاح كانت قد تبدَّدت ، ولم يستطع لمّ شعث الأمويين.. فتفرقوا وذهبت ريحهم..
ويبدو أن لهذا الانحلال الذي سرى في جسم الدولة أسبابًا خاصة ترجع إلى الظروف التي قامت في ظلها، وإلى الآثار الدينية والمعنوية التي أثارتها السياسة الأموية بالإضافة إلى أسباب عامة تكمن في التطورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي برزت نتيجة التوسع في الفتوحات والاحتكاكات مع الشعوب المجاورة عسكريًا وحضاريًا..
والواقع أن سقوط دولة الخلافة الأموية لا يمكن أن يُعزَى إلى حادث منفرد؛ فلا بد أن تكون هناك جملة أسباب أدت إلى هذه النهاية المحتومة كان من بينها:
تولية العهد لاثنين في وقت واحد!! :
من الأسباب التي أضعفت البيت الأموي وآذَنَتْ بذهاب ريحه تولية العهد لاثنين يلي أحدهما الآخر.. ويبدو أن ما دفع بعض الخلفاء أن يسلكوا هذا المسلك لم يكن إلا تفاديًا لنشوب الحروب الأهلية بعد وفاة الخليفة!.. وقد بذر هذا النهج بذور الشقاق والمنافسة بين أفراد ذلك البيت ، وأورثهم الحقد والبغضاء ، ولا غرو.. فما كان يتم الأمر لأول الأميرين حتى يعمل على إقصاء الثاني من ولاية العهد ، بل تعداهم إلى القواد والعمال.. فإنه لم يكد يتم الأمر لثانيهما حتى ينكل بمن ظاهر خصمه، وساعده على إقصائه من ولاية العهد..
وأول من سَنَّ هذه السنة مروان بن الحكم ، فقد ولى عهده ابنيه عبد الملك ثم عبد العزيز، ولم يأبه بما كان في مؤتمر الجابية حيث بايعوا عبد الملك ثم خالد بن يزيد وعمرو بن سعيد بن العاص ، وكان من أثر ذلك أن خرج عمر بن سعيد على عبد الملك..
سار عبد الملك على سنة أبيه مروان، فقد فكر في خلع أخيه عبد العزيز من ولاة العهد وتولية ابنيه الوليد ثم سليمان، إلا أن وفاة عبد العزيز دون ما كانت تحدثه به نفسه من خلعه، ولم يمنعه ذلك من ارتكاب تلك الغلطة التي أورثت البغض والعداوة بين الأخوين، بل تعدتهما إلى القواد والعمال ، فإن الوليد بن عبد الملك لما ولي الخلافة عمل على خلع أخيه سليمان من ولايته للعهد وجعلها في ابنه عبد العزيز، وكتب بذلك إلى العمال فأجابه الحجاج بن يوسف الثقفي والي العراق، وقتيبة بن مسلم والي خراسان، ومحمد بن القاسم والي السند، وأجزل الوليد العطاء للشعراء للإشادة بفضل عبد العزيز مما أثار روح الكراهية والبغضاء بينه وبين أخيه، فلما ولى سليمان الخلافة بعد وفاة أخيه الوليد انتقم ممن كان لهم يد في خلعه..
وهكذا تطورت المنافسة بين أفراد البيت المالك تطورًا غريبًا ، وأضحت خطرًا على الدولة الأموية ، فقد كان الخليفة ينتقم من القواد والعمال لمجرد اتهامهم بممالأة الخليفة السابق على خلعه..
هكذا بدأ سليمان عهده بالانتقام من كبار القواد وخيرة العمال والتشفي منهم، وكان من حسن حظ الحجاج أن مات قبل الوليد. على أن ذلك لم يصرف سليمان عن الانتقام من أهل بيته ، فقد أمر يزيد بن المهلب وكان عدو الحجاج الألد، وصالح بن عبد الرحمن أن يذيقا آل الحجاج أشد صنوف العذاب، كذلك انتقم سليمان من محمد بن القاسم ذلك القائد العظيم الذي بسط نفوذ الدولة على الهند والسند، وكذلك كان نصيب قتيبة بن مسلم الذي بسط نفوذ الدولة في بلاد ما وراء النهر..