الفصل الثالث
توليه إمرة المدينة المنورة
توفي عم عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه عبد الملك بن مروان رضي الله عنه فحزن عمر حزنا شديداً عليه لأنه كان له بمنزلة الأب و اليد الحانية التي غمرته بالمحبة و السرور ، فتولى الوليد بن عبد الملك رضي الله عنه الخلافة و كانت دار الخلافة آن ذاك بدمشق ، فعامل الوليد عمر بن عبد العزيز بما كان أبوه يعامله به وولاه إمرة المدينة و مكة و الطائف من سنة 86 هـ إلى سنة 93 هـ ، فأقام عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه للناس الحج سنة 89 هـ و 90 هـ ، وفي فترة ولايته بنى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ووسعه بأمر من الوليد ، فدخل فيه قبر النبي صلى الله عليه وسلموقد كان في هذه المدة من أحسن الناس معاشرة ، كان إذا وقع أمر مشكل جمع فقهاء المدينة ، وقد عين عشرةً منهم رضي الله عنهم ، ولا يقطع أمراً بدونهم ، وكان لا يخرج عن قول سعيد بن المسيب رضي الله عنه ، وقد كان سعيد لا يأتي أحداً من الخلفاء ، وكان يأتي على عمر بن عبد العزيز وهو بالمدينة ، وقد قال الصحابي الجليل خادم صلى الله عليه وسلم أنس بن مالك رضي الله عنه: ما صليت وراء إمام أشبه بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الفتى - يعني عمر بن عبد العزيز - قالوا : كان يتم السجود ويخفف القيام و القعود(18).
وقد أثنى عليه من عاصره في المدينة من علماء و تابعين و فقهاء و غيرهم لما لمسو في عمر من إخلاص وتفاني لخدمة دين الله وحمل لأمانة الولاية على أتم وجه (19).
قال أحد الناس : رأيته في المدينة وهو أحسن الناس لباساً ومن أطيب الناس ريحاً ومن أخيل الناس مشيته ، ثم رأيته بعد ذلك يمشي مشية الرهبان (20).
وقال الإمام مالك رضي الله عنه : لما عزل عمر بن عبد العزيز عن المدينة - يعني سنة 93 هـ - وخرج منها ألتفت إليها و بكى ، وقال لمولاه مزاحم : نخشى ممن نكون ممن نفت المدينة - يعني أن المدينة تنفث خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد - فنزل بمكان قريب منها يقال له السويداء،ثم قدم دمشق على بني عمه (21).
بوادر توليه أمانة الخلافة
مات الوليد بن عبد الملك سنة 96 هـ ، وبويع بالخلافة لسليمان رضي الله عنه ، وتولى عمر بن عبد العزيز بنفسه أخذ البيعة لسليمان ، فضم سليمان إليه عمر مستشاراً ينصحه ويشير عليه ، و ولاه على المدينة مرةً ثانية ، وكانت تجارب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه في ولاية المدينة ، وقربه من الخلفاء ، ناصحاً أو مستشاراً ، مفيدة في مراقبة الأوضاع عن كثب ، وفي الإعداد للخلافة ، وقيامة بعد استخلافه بحركته الإصلاحية الكبرى في جميع البلاد الإسلامية .
وكان لعمر مع سليمان مواقف نصح و ارشاد و تذكير بشدة الحساب يوم القيامة و في نفس الوقت كان سليمان يقدر عمر ويحرص على ملازمته له أشد الملازمة ، إلا أن هذا التقدير لم يصل إلا حد التفكير بأن يعهد لخلافته من بعده ، وإنما كان تفكيره في توليه أحد أولاده ، لولا اقتراح رجاء بن حيوة الذي كان وزير صدق للأمويين (22).
خلافة عمر بن عبد العزيز
في عام 99 هـ مرض سليمان بن عبد الملك فكتب الخلافة لبعض بنيه وهو غلام صغير ، فقال له رجاء بن حيوة : ما تصنع يا أمير المؤمنين ! إنما يحفظ الخليفة في قبرة أن يستخلف على المسلمين الرجل الصالح ، فاستخار سليمان الله ، ثم دعا رجاء بن حيوة فقال له : ماذا ترى في داوود بن سليمان ؟ فقال : هو غائب عنك في القسطنطينية و أنت لا تدري أحي هو أو ميت ! فقال له سليمان : فمن ترى ؟ قال : رأيك يا أمير المؤمنين - وهو يريد أن ينظر من يذكر - . فقال سليمان : كيف ترى عمر بن عبد العزيز ؟ قال : أعلمه و الله خيراً فاضلاً مسلماً ، فقال سليمان : هو و الله على ذلك ، والله لئن وليته ولم أول أحدا سواه لتكونن فتنة ، فكتب :
(( بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا كتابٌ من عبد الله سليمان بن عبد الملك لعمر بن عبد العزيز ، إني قد وليتك الخلافة من بعدي ، ومن بعده يزيد بن عبد الملك ، فاسمعوا له وأطيعوا ، و اتقوا الله ولا تختلفوا فيُطمع فيكم )) فدخلوا على سليمان و سمعوه وبايعوه رجلاً رجلاً ثم خرج بالكتاب مختوماً في يد رجاء بن حيوة (23) .
قال رجاء : فلما تفرقوا جاءني عمر بن عبد العزيز فقال : أخشى أن يكون هذا أسند إلي شيئاً من هذا الأمر ، فأنشدك الله وحرمتي و مودتي إلا أعلمتني إن كان ذلك حتى استعفيه الآن قبل أن تأتي حال لا أقدر فيها على ما أقدر عليه ! قال رجاء : لا و الله ما أنا بمخبرك حرفاً ؛ قال : فذهب عمر غضبان (24).
خرج رجاء بن حيوة بعد أن قبض الله سليمان ونادى كعب بن جابر العبسي صاحب شرطته وجمع أهل بيت سليمان في مسجد دابق فاجتمعوا ، فقال : بايعوا ، فقالوا : قد بايعنا مرة ، قال : وأخرى هذا عهد أمير المؤمنين فبايعوا ، فلما أحكم رجاء بن حيوة الأمر قال : قوموا إلى صاحبكم فقد مات ، قالوا : إنا لله و إنا إليه راجعون ، و قرأ الكتاب عليهم (25).
تغيرت وجوه بني مروان ، ونهض الناس إلى عمر بن عبد العزيز وهو في مؤخر المسجد، ولم تحمله رجلاه فأصعدوه على المنبر ، فسكت حيناً ، فقال رجاء بن حيوة : ألا تقوموا إلى أمير المؤمنين فتبايعوه ، فنهض القوم فبايعوه فخطب الناس خطبةً بليغة (26).
فحمد الله و أثنى عليه ثم قال :
(( أيها الناس إنه لا كتاب بعد القرآن ، ولا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم ، ألا و أني لست بفارضٍ و لكني منفذ ، و لست بمبتدع ، ولكني متبع ، ولست بخير من أحدكم ، ولكني أثقلكم حملاً ، وإن الرجل الهارب من الإمام الظالم ليس بظالم ، ألا لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق )) (27).
ثم نزل ، فأخذوا في جهاز سليمان فصلى عمر بن عبد العزيز عليه ودفن بدابق ، ثم أتي بمراكب الخلافة وهي تنشر في الأرض رجة فقال : ما هذا ؟ فقيل : مراكب الخلافة يا أمير المؤمنين قربت إليك لتركبها ! فقال : ما لي ولها ، نحوها عني قربوا إلى بغلتي ، فقربت إليه بغلته فركبها وانصرف مع الناس ثم مالوا به إلى دار الخلافة فأبى النزول بها قائلاً : لا أنزل إلا في منزلي ، وهكذا نجد أن مخايل الورع و الدين و التقشف و الصيانة و النزاهة ، من أول حركة بدت منه،حيث أعرض عن ركوب مراكب الخلافة ، وهي الخيول الحسان و الجياد المعدة لها وسكن منزله رغبةً عن منزل الخلافة (28).
إصلاحاته - رضي الله عنه -
صارت بلاد المسلمين تحت خلافة عمر بن عبد العزيز ، ورأى عمر أن ما آل إليه هو تكليف عظيم من الله وليس بتشريف ، فباع الدنيا برضا الله وسار في الناس سيرة الراعي الصالح والخليفة العادل فبدأ بنفسه وأهل بيته فصادر ما في حوزتهم وضمه لبيت المال باعتباره مالاً للمسلمين و ولى الولايات لمن رأى فيهم الصلاح والخير و رد المظالم لأصحابها، فكان يسعد بسعادة الرعية وهذا ما وضعه نصب عينية .
قال عمر بن عبد العزيز : إن لي نفساً تواقة ، لقد رأيتني وأنا بالمدينة غلام من الغلمان ، ثم تاقت نفسي إلى العلم ، إلى العربية و الشعر ، فأصبت منه حاجتي، وما كنت أريد ، ثم تاقت نفسي في السلطان ، فاستعملت على المدينة .
ثم تاقت وأنا في السلطان ، إلى اللبس و العيش و الطيب ، فما علمت أن أحداً من أهل بيتي ، ولا غيرهم ، كان مثل ما كنت فيه .
ثم تاقت نفي إلى الآخرة والعمل بالعدل ، فأنا أرجو ما تاقت إليه نفسي من أمر آخرتي ، فلست بالذي أهلك آخرتي بدنياهم (29).
قالت فاطمة زوجة عمر بن عبد العزيز : دخلت يوماً عليه وهو جالس في مصلاه واضعً خده على يده ودموعه تسيل على خديه ، فقلت : مالك ؟ فقال : ويحك يا فاطمة ، قد وليت من هذه الأمة ما وليت ، فتفكرت في الفقير الجائع ، والمريض الضائع ، والعاري المجهود ، و اليتيم المكسور ، والأرملة الوحيدة و المظلوم المقهور ، والغريب و الأسير ، والشيخ الكبير ، وذي العيال الكثير والمال القليل ، وأشباههم في أقطار الأرض و أطراف البلاد ، فعلمت أن ربي عز وجل سيسألني عنهم يوم القيامة ، وأن خصمي دونهم محمد صلى الله عليه وسلم فخشيت أن لا يثبت لي حجة عند خصومته فرحمت نفسي فبكيت (1).
وأصلح كثيراً من الأرض الزراعية ، وحفر الآبار ، وعمر الطرق ، وأعد الخزانات لأبناء السبيل ، و أقام المساجد ولكنه لم يعتن بزخرفتها و هندستها، أما الأرض المغتصبة والتي لا سجل لها فقد أعلن عمر عودتها إلى بيت مال المسلمين . فقد تمكن بإصلاحاته التي عمل بها طول مدة خلافته أن يقضي على الفقر و الحاجة ، ولم يعد لهما وجود ، ولم يبق من يأخذ من أموال الزكاة (30).