سورة المسد:
{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)}
* بين يدي السورة:
مكية / مدنية:مكية
الترتيب في المصحف:111
الترتيب في النزول:6
عدد آياتها:5
عدد كلماتها:29
عدد حروفها:81
* سبب النزول:
روى البخاري عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى البطحاء، فصعد الجبل فنادى: "يا صباحاه". فاجتمعت إليه قريش، فقال: "أرأيتم إن حَدثتكم أن العدوّ مُصبحكم أو مُمْسيكم، أكنتم تصدقوني؟ ". قالوا: نعم. قال: "فإني نذيرٌ لكم بين يدي عذاب شديد". فقال أبو لهب: ألهذا جمعتنا؟ تبًّا لك. فأنزل الله تعالى: { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ } إلى آخرها. .
وفي رواية: فقام ينفض يديه، وهو يقول: تبًّا لك سائر اليوم. ألهذا جمعتنا؟ فأنزل الله تعالى: { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ }.
* التفسير:
{ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) }
خسرت يدا أبي لهب وهلك بإيذائه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد تحقق خسران أبي لهب.
ومعنى {تَبَّتْ} : خسرت , { وتَبَّ } أي : وخسر هو . فالفعل الأول : دعاء ، والثاني : خبر . كما يقول الرجل : أهلكه الله وقد هلك . والتباب: هو الخسران والهلاك.
وقيل : ذَكَر يديه ، والمراد: جميعه- وعَبَّر عنها باليدين مجاز لأن أكثر الأفعال تُزاول بهما،وذلك على عادة العرب إذ يُعبِّرون ببعض الشيء عن جميعه ، كقوله تعالى : { ذلك بما قدَّمت يداك } [ الحج : 10 ]{ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) }
أي :لم يغن عنه ماله وولده وسائر ما كَسَبه شيئًا حين حل به الهلاك والعذاب .وذلك على اعتبار ( ما) نافية .
وقيل : المراد بكسبه هاهنا : ولده . ولا شك أن الولد من كسب أبيه.كما في الحديث الصحيح الذي أخرجه أحمد وأصحاب السنن عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِه,ِ وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ ".
وجوّز البعض أن تكون(ما) استفهامية. ويكون المعنى:أي شيءٍ أغنى عنه؟ وأي شيءٍ كسب؟.
{ سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) }
سيدخل نارًا متأججة، هو وامرأته التي كانت تحمل الشوك، فتطرحه في طريق النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأذيَّته.
وللعلماء في قوله تعالى : { حمَّالة الحطب } أقوال :
أحدهما : أنها كانت تمشي بالنميمة ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، والسدي ، والفراء . والعرب تقول : فلان يحطب على فلان : إذا نَمَّ به ، ومنه قول الشاعر :
إن بني الأدرم حمالوا الحطب ... هم الوشاة في الرضا والغضب.
وقال ابن قتيبة : فشبَّهوا النميمة بالحطب ، والعداوة والشحناء بالنار ، لأنهما يقعان بالنميمة ، كما تلتهب النار بالحطب .
والثاني : أنها كانت تحتطب الشوك ، فتلقيه في طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلاً ، رواه عطية عن ابن عباس . وبه قال الضحاك ، وابن زيد .
والثالث : أن المراد بالحطب : الخطايا ، قاله سعيد بن جبير .
والرابع : أنها كانت تُعيِّرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفقر ، وكانت تحتطب فَعُيِّرتْ بذلك ، قاله قتادة . وليس بالقوي ، لأن الله تعالى وصفه بالمال .
فائدة: قوله تعالى:{ سيصلى ناراً ذات لهب } :يدل على أن أبا لهب- وهو أحد أعمام النبي صلى الله عليه وسلم واسمه عبد العزى- سيصلى نارًا ذات شرر ولهيب وإحراق شديد , هو وزوجته ، وهي أم جميل بنت حرب أخت أبي سفيان . وفي هذا دلالة على صحة نُبوَّة نبينا عليه الصلاة والسلام ، لأنه أخبر بهذا المعنى أنَّ أبا لهب وزوجته يموتان على الكفر ، فكان كذلك . إذ لو قالا بألسنتهما : قد أسلمنا ، لوجد الكفار مطعنًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، غير أن الله علم أنهما لا يسلمان باطناً ولا ظاهراً ، فأخبره بذلك .
{ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5) }
في عُنقها حَبلٌ محكم الفَتْلِ مِن ليفٍ شديدٍ خشن، تُرْفَع به في نار جهنم، ثم تُرْمى إلى أسفلها.
والجيد : العُنُق . والمَسَدُ في لغة العرب : الحَبْل إذا كان من ليف المُقْل .
وقال ابن قُتيبة : المَسَد عند كثير من الناس : اللِّيف دون غيره ، وليس كذلك ، إنما المسد : كُلُّ ما ضُفِرَ وفُتِل من اللِّيف وغيره.
وقيل المراد بهذا الحبل : السلسلة التي ذكرها الله تعالى في النار ، طولها سبعون ذراعاً ، والمعنى : أن تلك السلسلة قد فتلت فتلاً مُحْكَماً ، فهي في عنقها تعذَّب بها في النار.
وقال سعيد بن المسيب: كانت لها قلادة فاخرة فقالت: لأنفقنها في عداوة محمد، يعني: فأعقبها الله بها حبلاً في جِيدها من مَسَد النار.
* القراءات:
1- قرأ الجمهور : { لَهَب } بفتح اللام ، والهاء . وقرأ مجاهد ، وحميد ، وابن كثير وابن محيصن:{لَهْب} بإسكان الهاء ، واتفقوا على فتح الهاء في قوله : { ذَاتَ لَهَبٍ }2- قرأ الجمهور : { سَيَصْلَى } بفتح الياء ، وإسكان الصاد ، وتخفيف اللام ، أي : سَيَصْلىَ هو بنفسه ، وقرأ أبو رجاء ، وأبو حيوة ، وابن مقسم ، والأشهب العقيلي ، وأبو السماك ، والأعمش ، ومحمد بن السميفع : {سَيُصَلَّى} بضم الياء ، وفتح الصاد ، وتشديد اللام. ورويت هذه القراءة عن ابن كثير ، والمعنى سيصليه الله.
3- قرأ عاصم { حمَّالةَ } بالنصب على الذم أو على أنها حال من امرأته , وقرأها الجمهور: { حمَّالةُ } بالرفع على الخبرية أو على أنها نعت (صفة) لامرأته.
قال الزجاج : من نصب «حمالةَ» فعلى الذَّم . والمعنى : أعني : حمالةَ الحطب .
* البلاغة:تضمنت السورة الكريمة وجوها من البديع والبيان نوجزها فيما يلي :
1- المجاز المرسل [ يدا أبى لهب ] أطلق الجزء وأراد الكل أي هلك أبو لهب.
2-الجناس بين [ أبى لهب ] وبين قوله [ نارا ذات لهب ] فالأول كُنية ، والثاني وصف للنار.
3- الكُنْية للتصغير والتحقير [ أبا لهب ] فليس المراد بالكُنية تكريمه بل تشهيره ، كأبي جهل .
4- الاستعارة اللطيفة [ حمالة الحطب ] مستعار للنميمة وهي استعارة مشهورة قال الشاعر : " ولم يمش بين الحي بالحطب الرطب.
5-الاختصاص بالنصب على الشتم والذم [ وامرأتُه حمالةَ الحطب ] أي أخص بالذم حمالةَ الحطب ، وهذا من أساليب العرب ، ينصبون المفعول على المدح ، أو الذم .
6-توافق الفواصل مراعاة لرءوس الآيات ، وهو من المحسنات البديعية (لهب ، كسب ، حمالة الحطب ) إلى آخره.
* فائدة: أخرج ابن أبي حاتم ، وأبو زرعة عن أسماء بنت أبي بكر ، قالت : «لما نزلت : { تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ } أقبلت العوراء أم جميل بنت حرب ولها ولولة ، وفي يدها فهر ، وهي تقول :
مُذممًا أبَيْنا ... ودينه قلَيْنا... وأمره عصينا
ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد ، ومعه أبو بكر ، فلما رآها أبو بكر قال: يا رسول الله قد أقبلت ، وأنا أخاف أن تراك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنها لن تراني " وقرأ قرآناً اعتصم به ، كما قال تعالى : { وَإِذَا قَرَأْتَ القرءان جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة حِجَابًا مَّسْتُورًا } [ الإسراء : 45 ] فأقبلت حتى وقفت على أبي بكر ، ولم تر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : يا أبا بكر إني أُخبرت أن صاحبك هجاني ، قال : لا ، وربّ البيت ما هجاك , فَوَلَّت وهي تقول : قد علمت قريش أني ابنة سيدها . وأخرجه البزار بمعناه عن ابن عباس ، وقال : لا نعلمه يروى بأحسن من هذا الإسناد .