لأندلس من الفتح إلي السقوط (7) عبد الرحمن الداخل ( صقر قريش )
لكي نفهم قصة دخول عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك إلى أرض الأندلس، دعونا نرجع إلى الوراء قليلاً حتى سنة 132هـ .
· في سنة 132هـ سقطت الخلافة الأموية و حدث قتل لكل المرشحين للخلافة و كل الأمراء و أبنائهم و أحفادهم تم قتلهم من قبل العبّاسيين إلاّ قليلاً و من هؤلاء القليل كان عبد الرحمن بن معاوية حفيد هشام بن عبد الملك(الذي حكم من 105 إلى 125هـ) و كان عمر بن عبد الرحمن بن معاوية في ذلك الوقت 19 سنة فقط و كان يعيش في منطقة العراق و كان له أخ صغير عنده 13 سنة و كان عبد الرحمن بن معاوية مطلوب الرأس و كذلك أخوه الوليد بن معاوية.
· كان عبد الرحمن بن معاوية يجلس في بيته في العراق فدخل عليه ابنه 4 سنوات يبكي فزعاً و كان عبد الرحمن بن معاوية في عينه رمد و معتزل في الظلام في ركن من البيت فأبعد الطفل عنه و أخذ يسكنّه بما يسكن به الأطفال و لكنّه ظل فزعاً مرعوباً فقام معه عبد الرحمن بن معاوية و وجد في خارج البيت الرايات السود و هي رايات الدولة العبّاسيّة و هي تعم القرية جميعاً فعلم أنّه مطلوب فوضع يده على نقود و أخذها و ترك أهله و انصرف. أخذ معه النقود و أخذ معه الوليد بن معاوية و ترك النساء و الأطفال و كل شيء لأنّ العبّاسيين لم يكونوا ليقتلوا النساء و لا الأطفال و لكن كانوا يقتلون كل من بلغ و كان مؤهلاً للخلافة.
· ثم هرب عبد الرحمن بن معاوية و معه أخوه حتى وصل إلى نهر الفرات و هناك وجدوا القوّات العبّاسية تحاصر النهر فألقيا بأنفسهما في النهر و أخذا يسبحان و هناك ناداهما العبّاسيون أن ارجعا و لكما الأمان. كان الوليد بن معاوية أخو عبد الرحمن بن معاوية قد تعب من السباحة، فعاد، فقال له أخوه الأكبر أن عد يا أخي (يقتولك) فقال قد أعطونا الأمان فعاد سابحاً راجعاً من النهر فأمسك به العباسيون فقتلوه أمام أخيه.
· عبر عبد الرحمن بن معاوية النهر و هو لا يستطيع أن يتكلم أو يفكّر من الحزن ثم قال "ثم يممّت مغرباً". فيممّ في اتجاه بلاد المغرب لأن أخوال عبد الرحمن بن معاوية كانوا من البربر. فهرب إلى أخواله في قصة هروب طويلة جداً عبر فيها الحجاز و مصر و ليبيا و القيروان.
· لمّا وصل إلى القيروان و هو يبلغ من العمر 19 سنة فقط وجد هناك ثورة كبيرة جداً من الخوارج على رأسها عبد الرحمن بن حبيب في الشمال الأفريقي عن الدولة العبّاسيّة. و كان عبد الرحمن بن حبيب يسعى هو الآخر للقضاء على عبد الرحمن بن معاوية لأن هناك كراهيّة شديدة جداً بين الخوارج و بين الأمويين، لأنّ بداية ظهور فكر الخوارج عندما حدث خلاف بين عليّ بن أبي طالب و بين معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهم أجمعين و حدثت موقعة صفيّن المشهورة........... فكان الخوارج يكرهون بني أميّة بشدة، فعندما قدم عبد الرحمن بن معاوية إلى القيروان اجتمع عليه الخوارج و كادوا أن يقتلوه فهرب من جديد إلى برقه في ليبيا و اختفى هناك 4 سنوات كاملة مختبئاً عند بعض أخواله هناك حتى سنة 136 و كان قد بلغ من العمر 23 سنة.
· فكّر عبد الرحمن بن معاوية، هل يظلّ مختبئاً طول العمر أم يعاود الظهور من جديد؟ ففي أي قطر من بلاد المسلمين هو مطلوب الرأس ففي المشرق الإسلامي هو مطلوب من العبّاسيين و في المغرب الإسلاميّ هو مطلوب من الخوارج، فهل يظل مختبئاً طوال حياته و هو سليل الأمراء و الخلفاء أم يحاول أن يقيم للأمويين مجداً من جديد.
· ظهر في فكره خاطر أن يذهب إلى الأندلس و هي أبعد الأماكن عن العباسيين و الخوارج بالإضافة إلى أن الوضع في الأندلس ملتهب جداً. ففي هذا الجو يستطيع عبد الرحمن بن معاوية أن يدخل هذه البلاد فلو كانت البلاد تبايع الخلافة العبّاسيّة ما استطاع أن يدخلها، و لو كانت تبايع الخوارج ما استطاع أن يدخلها. فهذه أنسب الأماكن على وعورتها.
بدأ عبد الرحمن بن معاوية يخطط لدخول الأندلس سنة 136هـ :
أولا:
أرسل مولاه بدر إلى الأندلس لدراسة الموقف و معرفة القوى المؤثرة في الحكم في بلاد الأندلس.
ثانيا:
راسل كل محبي الدولة الأموية في أرض الأندلس بعد أن علمهم من مولاه بدر. و الحق أنّ كثيراً من الناس في عهد الدولة الأموية كانوا يحبونها منذ عهد معاوية بن أبي سفيان على الشام حتى في خلافة عمر بن الخطّاب و عثمان بن عفّان و عليّ بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين. كان المسلمون في أقطار الدولة الإسلاميّة يحبون بني أميّة. و اشتهر بنو أميّة على مر العصور بالسخاء الشديد و السياسة و الحكمة و اكتساب الناس و حسن معاملتهم و الجهاد في سبيل الله و نشر الدين و فتح البلاد فكان لبني أميّة داخل بلاد الأندلس كثير من المريدين و كثير من المحبين حتى من غير بني أميّة.
ثالثا:
في ذكاء شديد، راسل البربر يطلب معونتهم و مساعدتهم و كانوا في ذلك الوقت على خلاف شديد جداً مع يوسف بن عبد الرحمن الفهري لأنّه فرّق بين العرب و البربر. فأراد البربر أن يتخلصوا من حكم يوسف بن عبد الرحمن الفهري.
رابعاً:
راسل كل الأمويين في الأرض يعرض عليهم فكرته و أنّه يعزم على دخول بلاد الأندلس و يطلب معونتهم و مددهم.
خامساً:
ينتمي يوسف بن عبد الرحمن الفهري إلى مضر بالحجاز كما ينتمي عبد الرحمن بن معاوية أيضاً إلى مضر من بني أميّة.
فكّر عبد الرحمن بن معاوية في اليمنيين الذين على خلاف مع يوسف بن عبد الرحمن الفهري و ليسوا على وفاق أيضاً مع بني أميّة و لكنهم ليست لديهم طاقة بيوسف بن عبد الرحمن الفهري، فقبلوا أن يتحدوا مع عبد الرحمن بن معاوية. و كان على رئاسة اليمنيين في ذلك الوقت رجلاً اسمه أبو الصباح اليحصبي و كان المقر الرئيسي لهم أشبيليّه المدينة الكبيرة التي تعدّ حاضرة من حواضر الإسلام في ذلك الوقت.
فعل كل هذه الأمور و هو يبلغ من العمر 23 عاماً و استمر في تجميع هؤلاء الأعوان سنتان حتى عام 138هـ.
يأتي له رسول من لدن مولاه بدر من بلاد الأندلس ليقول له أن الوضع قد تجهز لاستقبالك فيقول له: ما اسمك، فيقول له اسمي غالب التميمي فيقول: الحمد لله غلبنا و تم أمرنا.
بدأ يعد العدة و يجهز السفينة التي تأخذه منفرداً إلى بلاد الأندلس فنزل على ساحل الأندلس بمفرده و استقبله هناك مولاه بدر و انطلق معه إلى قرطبة.
نذكر هنا قول المؤرخين: أن الإسلام كاد أن ينتهي من الأندلس عام 138هـ لولا دخول عبد الرحمن بن معاوية حيث قام بتجميع الناس من حوله: البربر – محبي الدولة الأموية- كثير من القبائل المعارضة ليوسف بن عبد الرحمن الفهري، و قد جاءه بعض الأمويين من بقاع الأرض المختلفة و مع ذلك لم يبلغ معه العدد عدداً كافياً تكفي أن يغير معه الأوضاع و لذلك فكّر في اليمنيين.
ذهب عبد الرحمن بن معاوية بنفسه إلى أشبيليّة و اجتمع طويلاً مع أبي الصباح اليحصبي و اتفقا على أن يقاتلا سوياً ضد يوسف بن عبد الرحمن الفهري.
قبل القتال أرسل عبد الرحمن بن معاوية رسائل إلى يوسف بن عبد الرحمن الفهري يطلب ودّه و أن يسلم له الإمارة و يكون رجلاً من رجاله في بلاد الأندلس، فرفض يوسف الفهري كل ذلك و جهّز جيشاً ليحارب عبد الرحمن بن معاوية. و كانت موقعة كبيرة عرفت باسم موقعة المسارة أو المصارة و كان ذلك في ذي الحجّة سنة 138هـ.
طبعاً أمر مؤسف جداً أن يلتقي المسلمون بسيوفهم لكن كثرة الثورات و كثرة الفتن و الانقلابات جعلت الحل العسكري هو الحل الحتميّ في ذلك الوقت.
كان جيش يوسف الفهري جيشاً كبيراً. و كان عبد الرحمن بن معاوية يعتمد في الأساس على اليمنيين، و سمع أبو الصباح اليحصبي بعض المقالات من اليمنيين تقول أنّ عبد الرحمن بن معاوية غريب عن البلاد ثمّ إنّ معه فرس أشهب عظيم و لو حدثت هزيمة لهرب من ساحة القتال و تركنا للفهريين، فما كان من ذكاء عبد الرحمن بن معاوية إلا أن ذهب إلى أبو الصباح اليحصبي و قال له أن هذا الجواد لا يمكنني من الرمي فإن أردت أن تأخذه و تعطيني بغلتك فعلت. فأعطى الجواد السريع إليه و أخذ البغلة فقال اليمنيون هذا ليس بمسلك رجل يريد الهرب فبقي معه اليمنيون و قاتلوا قتالاً شديداً و دارت معركة قوية جداً انتصر فيها عبد الرحمن بن معاوية و فرّ يوسف الفهري.
كان عادة الناس في ذلك الزمن أن يتابع المنتصرون المنهزمين حتى يقتلوهم و يقضوا على الثورة، بدأ اليمنيون يجهزون أنفسهم حتى يتتبعوا الجيش الفار و لكن منعهم عبد الرحمن بن معاوية من تتبعهم و يقول لهم قولاً خالداً:
لا تتبعوهم...اتركوهم...
لا تستأصلوا شأفة أعداء ترجون صداقتهم و استبقوهم لأشد عداوة منهم
استبقوهم لمن؟ استبقوهم للنصارى!!! عنده نظرة متسعة جداً تشمل كل بلاد الأندلس بل و تشمل كل أوروبا بل و إن في نظره أن يعيد ملك الشام بعد ذلك إلى الأمويين. و في ذلك نجد:
أولا :
ليس في قلبه غل و لا حقد على من كان حريصاً على قتله منذ ساعات قليلة.
ثانيا:
الفهم العميق للعدو الحقيقيّ و هو النصارى في الشمال.
ثالثاً:
إن جاز له شرعاً أن يقاتلهم لتجميع الناس حول راية واحدة فلا يجوز له شرعاً أن يتتبعهم و أن يقتل الفارً منهم و لا أن يجهز على الجريح منهم و لا أن يقتل أسيرهم لأن لهم حكم الباغين في الإسلام و ليس لهم حكم المشركين. و الباغي في الإسلام: لا يتتبع الفار منهم و لا يقتل أسيره و لا يجهز على جريحه بل و لا يؤخذ منه الغنائم. فلديه فقه و علم و سعة اطلاع و فهم عميق و هو لم يبلغ من العمر إلاّ 25 سنة.
بعد انتهاء موقعة المسارة، قام أبو الصباح اليحصبيّ في اليمنيين و قال لهم: (لقد انتصرنا على عبد الرحمن الفهريّ و جاء وقت النصر على غيره) يعرّض بعبد الرحمن بن معاويه، فيقول إن انتصرنا عليه دانت لنا بلاد الأندلس.
لم يوافقه اليمنيون على ذلك و قالوا له: إن هذا الرجل ليس بالبسيط و تصل هذه الأنباء إلى عبد الرحمن فأسرّها في نفسه و لم يبدها له و لكنه أصبح على حذر شديد من أبي الصباح اليحصبيّ.
لم يرد عبد الرحمن بن معاوية أن يحدث خللاً في الصف في هذه الأوقات و لكن بعد 11 سنة من هذه الأحداث عزل أبي الصباح اليحصبي عن مكانه. فكان هم عبد الرحمن بن معاوية الأول هو تجميع الناس و قتال النصارى بعد ذلك. و بعد موقعة المسارة و السيطرة على منطقة قرطبة و الجنوب الأندلسي لقّب عبد الرحمن بن معاوية بعبد الرحمن الداخل لأنه أول من دخل من بني أميّة قرطبة حاكماً.
عرفت هذه الفترة باسم الإمارة الأموية و تبدأ من سنة 138هـ. و سميت إمارة لأنها أصبحت منفصلة عن الخلافة الإسلاميّة سواء في عصر الخلافة العباسية أو ما تلاها بعد ذلك من العصور إلى آخر عهود الأندلس.