عن عائشة - رضي الله عنها- قالت: " ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يسرد سردكم هذا، ولكنه كان يتكلّم بكلام بيّن فصل، يحفظه من جلس إليه"(1).
عن أنس بن مالك قال:" كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يعيد الكلمة ثلاثا لتعقل عنه"(2).
تطالعنا كتب السنة الشريفة بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم- من الأحاديث في الأحكام والأخبار بلسان عربي مبين، سهل الألفاظ، واضح المعاني، جزل العبارة، لا تمله المسامع، ولا تأنفه الخواطر، في سلاسة طبع، وجودة لسان، وغزارة بيان، وإيجاز مع إعجاز.
لقد أوتي جوامع الكلم، وبدائع الحكم، وبلاغة القول، بما جمع له - صلى الله عليه وسلم- من أصالة المنشأ القرشي، وقوة عارضة البادية وجزالتها، ورقة ألفاظ الحاضرة، إضافة إلى جريان الآي القرآني المبارك على لسانه، والعصمة الربانية التي لا تنبغي لأحد من بعده.
وكان الصحابة - رضي الله عنهم- أحظى هذه الأمة بسماع سنته من فِيْهِ الشريف، وأصدقهم نقلا لصفة كلامه - صلى الله عليه وسلم-، وحسن منطقه، وجودة عبارته.
وهذا الحكم الذي نقلوه عنه ذو دلالات عظيمة منها:
أنهم- رضي الله عنهم- مورد اللغة العربية، ومنهل الفصاحة والبيان، وأهل الخبرة والمعرفة باللسان العربي، لم يتسرب إليهم الفساد في اللفظ، ولم يخلّطوا الكلام، فكان المصطفى - صلى الله عليه وسلم- بشهادتهم في الذروة العليا من الفصاحة والبلاغة، ومن أحاديثه الجزلة - قليلة المباني عظيمة المعاني- قوله - صلى الله عليه وسلم-:" ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار"(3).
أنهم لم يحكموا على خطبه أو مواعظه أو نصائحه على حدة في ساعة مؤقتة، أو فترة محددة، فربما نمّقها، وأولاها عنايته واهتمامه، ولكنه وصف عام دائم لا ينفك عن منطقه، ولا يتخلف عن قوله، على سائر أحواله من إقامة وسفر، وجهاد ودعوة، مذ كَرَّمَهُ ربه تبارك وتعالى بآياته، واختاره لختم رسالاته.
منطقه البهيّ، وحديثه النديّ مكّن أصحابه - رضي الله عنهم- من حفظ سنته في الصدور، ونقل دقيقها وجليلها لمن بعدهم على الوجه الذي سمعوه من فِيه - صلى الله عليه وسلم-.
كما أن أسلوبه الحديثي الخاص يكشف لمن اعتاد سماعه ما ألصق به من الروايات الباطلة، والأحاديث الموضوعة، وتمييز الصحيح من السقيم، بما تنفر أسماعهم منه لركاكته، وضعف بنائه، وسخف مراده.
أحب الصحابة - رضي الله عنهم- النبي - صلى الله عليه وسلم-، وأحبوا كلامه العذب، فكان ملأ السمع، ولذّة القلب، وراحة المشاعر، وعاه من جلس إليه من كبير أو صغير، ورجل أو امرأة، متقدم في العلم أو مبتدئ فيه، وكذا الحاضر والبادِ.
ويأتي دورنا في الاقتداء به في دروسنا ومواعظنا وحياتنا كلها؛ لنتعلم منه فنّ الحديث الطيّب المحبّب، والأسلوب الجذّاب المهذّب، والحوار البناء، والجواب العلمي المقنع، والإنصات الحكيم، وغيرها من فنون الكلام المستفادة من سنته - صلى الله عليه وسلم-، إضافة إلى التنور بأمثاله البديعة، وحكمه الجامعة المنيعة، والاستشهاد بها في المواقف المناسبة، كقوله:" لا تظهر الشماتة لأخيك فيرحمه الله ويبتليك "(4).
في نفي عائشة - رضي الله عنها- أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم- يسرد الكلام ويلقيه تباعًا، تنبيه إلى حاجة الخطيب والداعية إلى المواعظ الجزلة، والدروس الموجزة، والدعوات الجامعة، وتجنب الإطالة المقيتة، والتفاصيل الدقيقة، اتباعًا لهديه - صلى الله عليه وسلم-:" إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه "(5)
( مئنة ) أي علامة.
تكتب هذه السلسلة
د/ منى القاسم
--------------------------------------------------------------------------------
(1) - سنن أبي داود ( 4839) و الشمائل النبوية ( 223) قال الألباني: صحيح.
(2) - سنن الترمذي (3640 ) قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح غريب إنما نعرفه من حديث عبد الله بن المثنى.
(3) - صحيح البخاري (16).
(4) - سنن الترمذي (2506) وقال أبو عيسى : هذا حديث حسن غريب .
(5) - صحيح مسلم (869 ).